المرض رحمة فأذا أصابكم فلاتجزعوا منه ولا تكرهوه
---------------------------------
فإن الذي دعاني إلى كتابة هذه الرسالة ما رأيت من جهل الناس بفوائد المرض إلى درجة أني سمعت أُناساً يقولون: ألا ترحمه يارب، ومنهم من يقول: إما ارحمه أو ريحه، مع أن الله يقول في بعض الآثار: ( كيف أرحمه من شيء به أرحمه؟ )، وكذلك ما سمعت ورأيت من بعض المرضى الذين ابتلوا بأمراض مستعصية كالسرطان أو غيره من الأمراض التي لا يوجد لها علاج، فبلغ بهم اليأس مبلغاً عظيماً فتجد الواحد منهم قد ضعف صبره وكثر جزعه وعظم تسخطه وانفرد به الشيطان يوسوس له ويذكره بالمعاصي الماضية حتى يؤيسه من روح الله ويوقعه في القنوط، يقول الله: إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة:10]، مع أن المريض لا خوف عليه مادام مؤمنا ومحافظاً على الصلاة، ، فإن من تاب توبة صادقة قبل الغرغرة تاب الله عليه، ولو وقع في كبائر الذنوب، فإنه يرجى لكل من مات من الموحدين ولم يمت على الكفر، ففي الحديث: { "من مات من أمتي لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة"، فقال أبو ذر: وإن زنى وإن سرق، قال: "وإن زنى وإن سرق" }، ويقول : { لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل }، ويقول الله: { أنا عند ظن عبدي، فليظن بي ما يشاء }.
فعلى المؤمن أن يصبر على البلاء مهما اشتد به فإن مع العسر يسراً، وعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، يقول أنس: { إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: "كيف تجدك؟" قال: أرجو رحمة الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي، فقال: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمَّنه مما يخاف" }، فلا تسيء العمل وأنت صحيح بحجة هذا الحديث، فلعل الموت يأتيك بغتة. وعلى كل فالمؤمن يصبر ويرضى بقضاء الله، فإن عاش لم يحرم الأجر، وإن مات فإلى رحمة الله.
فإذا تقرر هذا كله فإليكم فوائد المرض العظيمة وما يترتب عليه من مصالح ومنافع قلبية وبدنية، وقبل الشروع لابد من مقدمة قبل الدخول في المقصود.
إن الله لم يخلق شيئاً إلا وفيه نعمة أيضاً، إما على المبتلى أو على غير المبتلى، حتى إن ألم الكفار في نار جهنم نعمة، ولكنها في حق غيرهم من العباد، فمصائب قوم عند قوم فوائد، ولولا أن الله خلق العذاب والألم لما عَرَف المتنعمون قدر نعمته عليهم ولجُهلت كثير من النعم، ومن هنا خلق سبحانه الأضداد لحكم كثيرة منها معرفة النعم، فلولا الليل لما عرف قدر النهار، ولولا المرض لما عرف قدر الصحة، وكذا الفقر والسماء والجنة، ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آلام أهل النار، بل إن من نعيم أهل الجنة رؤية أهل النار وما هم فيه من العذاب، مع العلم أن كل بلاء يقدر العبد على دفعه، لا يؤمر بالصبر عليه، بل يؤمر بإزالته ففي الحديث: { ليس للمؤمن أن يذل نفسه، أن يحمل نفسه مالا يطيق }. وإنما المحمود الصبر على ألم ليس له حيلة في إزالته، كما أن من النعم نعمة تكون بلاءً على صاحبها، فإنه يبتلى بالنعماء والبأساء، وكم من بلاء يكون نعمة على صاحبه، فرب عبد تكون الخيرة له في الفقر والمرض، ولو صح بدنه وكثر ماله لبطر وبغى (وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ [الشورى:27].
فكل نعمة سوى الإيمان وحسن الخلق قد تكون بلاء في حق بعض الناس، وتكون أضدادها نعماً في حقهم، فكما أن المعرفة كمال ونعمة، إلا أنها قد تكون في بعض الأحيان بلاء وفقدها نعمة مثل أجل العبد أو جهله بما يضمر له الناس، إذ لو رفع له الستر لطال غمه وحسده. وكم من نعمة يحرص عليها العبد فيها هلاكه، ولما كانت الآلام والأمراض أدوية للأرواح والأبدان وكانت كمالاً للإنسان، فإن فاطره وبارئه ما أمرضه إلا ليشفيه، وما ابتلاه إلا ليعافيه، وما أماته إلا ليحييه، وقد حجب سبحانه أعظم اللذات بأنواع المكاره وجعلها جسراً موصلاً إليها، ولهذا قال العقلاء قاطبة: إن النعيم لا يدرك بالنعيم، وإن الراحة لا تنال بالراحة، فهذه الآلام والمشاق من أعظم النعم، إذ هي أسباب النعم، فمثلاً نزول الأمطار والثلوج وهبوب الرياح وما يصاحبها من الآلام فإنها مغمورة جداً بالنسبة إلى المنافع والمصالح التي تصحبها، فمثلاً لو أن المرأة نظرت إلى آلام الحمل والولادة لما تزوجت، لكن لذة الأمومة والأولاد أضعاف أضعاف تلك الآلام، بل إنها إذا حرمت الأولاد لم تترك طبيباً إلا وذهبت إليه من أجل الحصول على الأبناء، إنه لا يوجد شر محض، وما نهى سبحانه عن الأعمال القبيحة إلا لأن مفسدتها راجحة على خيرها، وهكذا.. وقد قال الله عن الخمر: إثمها أكبر من نفعها، فلو نظر العبد كم يحصل له من المضار والمفاسد منها لما أقدم عليها.
فإذا تقرر هذا كله، فإليكم فوائد ومصالح ومنافع الأمراض والتي نقتصر على بعض منها:
حكم المرض وفوائده :
--------------
1 . استخراج عبودية الضراّء وهي الصبر
إذا كان المرء مؤمناً حقاً فإن كل أمره خير ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله خير ، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن ، إن أصابته سراّء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراّء صبر فكان خيراً له "
2 . تكفير الذنوب والسيئات
- مرضك أيها المريض سبب في تكفير خطاياك التي اقترفتها بقلبك وسمعك وبصرك ولسانك ، وسائر جوارحك .
- فإن المرض قد يكون عقوبة على ذنب وقع من العبد ، كما قال تعالى {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير }
- يقول المعصوم – صلى الله عليه وآله وسلم - : " ما يصيب المؤمن من وَصب ، ولا نصب ، ولا سقَم ، ولا حزن حتى الهمّ يهمه ، إلا كفر الله به من سيئاته ".
3 . كتابة الحسنات ورفع الدرجات
- قد يكون للعبد منزلة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى ، لكن العبد لم يكن له من العمل ما يبلغه إياها ، فيبتليه الله بالمرض وبما يكره ، حتى يكون أهلاً لتلك المـنزلة ويصل إليها .
- قال عليه الصلاة والسلام : " إن العبد إذا سبقت له من الله منـزلة لم يبلغها بعمله ، ابتلاه الله في جسده أو في ماله أو في ولده ، ثم صبّره على ذلك ، حتى يبلغه المنـزلة التي سبقت له من الله تعالى "
4 . سبب في دخول الجنة
- قال – صلى الله عليه وآله وسلم - : " يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطى أهل البلاء الثواب ، لو أن جلودهم كانت قرِّضت بالمقاريض "
5 . النجاة من النار
- أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – عاد مريضاً ، فقال له رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : " أبشر فإن الله عز وجل يقول : هي ناري أسلطها على عبدي المؤمن في الدنيا لتكون حظه من النار في الآخرة "
6 . ردّ العبد إلى ربه وتذكيره بمعصيته وإيقاظه من غفلته
من فوائد المرض أنه يرد العبد الشارد عن ربه إليه ، ويذكره بمولاه بعد أن كان غافلاً عنه ، ويكفه عن معصيته بعد أن كان منهمكاً فيها .
7 . البلاء يشتد بالمؤمنين بحسب إيمانهم
قال عليه الصلاة و وآله السلام : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط "
بشرى للمريض
----------
ما كان يعمله المريض من الطاعات ومنعه المرض من فعله فهو مكتوب له ، ويجري له أجره طالما أن المرض يمنعه منه .
قال – صلى الله عليه وآله وسلم - : " إذا مرض العبد أو سافر كتب له مثل ما كان يعمل مقيماً صحيحاً "
الواجب على المريض
--------------
- الواجب على المريض تجاه ما أصابه من مرض هو أن يصبر على هذا البلاء ، فإن ذلك عبودية الضراء .
والصبر يتحقق بثلاثة أمور
1 . حبس النفس عن الجزع والسخط
2. وحبس اللسان عن الشكوى للخلق .
3 . وحبس الجوارح عن فعل ما ينافي الصبر
أسباب الصبر على المرض
-----------------
- 1 . العلم بأن المرض مقدر لك من عند الله ، لم يجر عليك من غير قبل الله .
- قال تعالى { قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون } ، وقال تعالى { ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها }
- قال عليه الصلاة وآله : " كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ".
- 2 . أن تتيقن أن الله أرحم بك من نفسك ومن الناس أجمعين :
- عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – قال : قدم على النبي – صلى الله عليه وسلم – سبيٌ ، فإذا امرأة من السبي وجدت صبياً فأخذته ، فألصقته ببطنها وأرضعته ، فقال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم - : " أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار ؟ قلنا : لا وهي تقدر أن لا تطرحه ، فقال : لله أرحم بعباده من هذه بولدها " .
- 3 . أن تعلم أن الله اختار لك المرض ، ورضيه لك والله أعلم بمصحتك من نفسك :
- إن الله هو الحكيم يضع الأشياء في مواضعها اللائقة بها ، فما أصابك هو عين الحكمة كما أنه عين الرحمة .
- 4 . أن تعلم أن الله أراد بك خيراً في هذا المرض :
- قال عليه الصلاة وآله : " من يرد الله به خيراً يصب منه " أي يبتليه بالمصائب ليثيبه عليها .
- 5 . تذكر بأن الابتلاء بالمرض وغيره علامة على محبة الله للعبد :
- قال – صلى الله عليه وسلم - : " إن عظم الجزاء مع عظم البلاء ، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم " صحيح الترمذي للألباني 2/286 .
- 6 . أن يعلم المريض بأن هذه الدار فانية ، وأن هناك داراً أعظم منها وأجل قدراً :
- فالجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .
- قال – صلى الله عليه وآله وسلم - : " يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة ، فيصبغ في النار صبغة ، ثم يقال : يا ابن آدم : هل رأيت خيراً قط ؟ هل مرّ بك نعيم قط ؟ فيقول : لا والله يا رب . ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة ، فيصبغ في الجنة صبغة ، فيقال له : يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط ؟ هل مرّ بك شدة قط ؟ فيقول : لا والله يا رب ما مرّ بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط "– الصبغة أي يغمس غمسة .
- 7 . التسلي والتأسي بالنظر إلى من هو أشد منك بلاء وأعظم منك مرضاً :
- قال صلى الله عليه وآله : " انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم "
وأسأله سبحانه أن يشفي مرضانا ومرضى المسلمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين . والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين